اخبار عامة
د. حازم الببلاوي يكتب : عن توزيع أراضي الدولة بالتخصيص

2015-07-12 02:00:28

بقلم د. حازم الببلاوي رئيس وزراء مصر الاسبق

د. حازم الببلاوي يكتب : عن توزيع أراضي الدولة بالتخصيص
 
نشر هذا المقال للدكتور حازم الببلاوي  رئيس وزراء مصر الاسبق بجريدة الاهرام بعددها رقم 45254 بتاريخ 31 اكتوبر 2010
 
انشغل الرأي العام في الآونة الأخيرة بقضايا تخصيص أراضي البناء لعدد من المستثمرين مما أدي إلي رفع قضايا وصدور أحكام ببطلان العقود الصادرة لصالحهم‏,‏ والبحث عن حلول للتوفيق بين هذه الأحكام وعدم تعريض الحقوق المكتسبة للمتعاملين بحسن نية في ظل ما صدر من قرارات سابقة بالتخصيص‏.‏
 

 

ونشرت بعض الصحف أخيرا أخبارا مفادها أن هناك اتجاهات في الحكومة لإصدار قوانين تقنن بمقتضاها أوضاع المخالفين في عمليات استصلاح الأراضي الزراعية أو السماح لوزارة الإسكان بالاستناد إلي قانونها الخاص بالتصرف في الأراضي مع عدم التقيد بقواعد قانون المناقصات العامة, وبما يعطي الوزارة الحق في توزيع الأراضي بالأمر المباشر أو بالتخصيص أو المزايدات وذلك دون حاجة إلي التقيد بقانون المناقصات العامة.


ولايبدو لي أن القضية هي مجرد تعارض بين القوانين الخاصة بأراضي الإسكان وقانون المناقصات العامة, أو أن هناك حاجة إلي مزيد من الوضوح وإزالة أية غموض أو التعارض بين هذه القوانين, بل إن المشكلة أعمق من ذلك بكثير, فهي تتعرض لمدي احترام أحد أهم الحقوق الدستورية للمواطن, وهو حقه في المساواة أمام القانون دون تمييز. وهذا ليس فقط أحد أهم حقوق المواطنة بل إنه أساس مفهوم دولة القانون بل ومعني القانون في ذاته, فالقانون ـ في جوهره ـ هو قواعد عامة مجردة تسري علي الجميع دون تمييز. فالدولة تتعامل مع الأفراد من خلال القانون والقانون يضع قواعد عامة تسري علي الجميع دون تمييز.
وتنص المادة8 من الدستور علي أن تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين كما تنص المادة40 من نفس الدستورالمواطنون لدي القانون سواء, وهم متساوون في الحقوق والواجبات, لاتمييز بينهم فأي تمييز من الدولة في المعاملة بين الأفراد سواء فيما يتعلق بما يفرض عليهم من أعباء أو ما يتاح لهم من فرص, يعتبر خروجا علي مباديء الدستور ويبدو, بشكل عام, أن فكرة التخصيص أو الأمر المباشر في توزيع أراضي الدولة تتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص والسؤال كيف تسرب هذا المبدأ إلي ممارسات الحكومات المصرية المتعاقبة؟ ولماذا لم ينتبه أحد إلي ماتتضمنه هذه الممارسات من خروج علي المباديء الدستورية المستقرة في جميع الدول الديمقراطية؟


وللإجابة علي هذا التساؤل, فعلينا أن نرجع بذاكرتنا إلي تاريخنا غير البعيد عن حقوق الحاكم وسلطته في مجال توزيع الأراضي. ولعله من المفيد أن نتذكر هنا أن مفهوم الملكية العقارية وخاصة في الأراضي الزراعية, هو أمر حديث نسبيا في مصر ففي عصر المماليك وقبل استيلاء محمد علي باشا علي السلطة في بداية القرن التاسع عشر, كانت ملكية الأراضي الزراعية غير واضحة, عما إذا كانت يد الفلاحين علي هذه الأراضي هي حق ملكية وأن مايدفعونه هو ضرائب أم أن الملكية هي للحاكم وأن الفلاحين ينتفعون ـ في الواقع ـ باستغلال الارض مقابل دفع العوائد عن هذا الاستغلال, وهكذا كانت للحاكم المماليك سلطة واسعة وغير محددة علي الفلاحين القائمين بالزراعة. وعندما تولي محمد علي حكم البلاد فإنه اعتبر أن الوالي محمد علي نفسه هو المالك الوحيد اللأراضي, وأن يد الفلاحين علي الأرض هي للاستغلال مقابل دفع العوائد للحاكم باعتباره المالك الوحيد للأراضي. وألغي محمد علي باشا نظام الالتزام وفرض بدلا منه نظاما شبيها أطلق عليه نظام العهدة وبحيث يقوم المتعهد بتحصيل العوائد من الفلاحين لحساب الوالي مقابل استغلال الأرض. ومن الناحية العملية لم يكن هناك فرق كبير بين نظام الالتزام مع المماليك أو نظام العهدة مع محمد علي.


كذلك لم يكتف محمد علي بفرض نظام العهدة بل إنه أدخل نوعا من الملكية الخاصة في الأراضي البعيدة وغير المستصلحة لأقاربه وكبار معاونيه فيما عرف بالابعاديات فقد عمد محمد علي باشا وكان يلقب بولي النعم إلي منح هؤلاء المحاسيب أراضي علي سبيل الملكية القانونية لاول مرة, وذلك في المناطق البعيدة نسبيا علي أطراف الوادي والدلتا. وهكذا بدأت تظهر بذور الملكية العقارية الخاصة في مصر الحديثة مع ابعاديات محمد علي, والتي يمنحها لمن يصطفيهم من أقاربه وكبار معاونيه في الحكومة. ومن هنا نلمح أوجه الشبه بين اابعادياتب محمد علي وبين مفهوم التخصيص الحديث في توزيع أراضي الدولة ففي الحالتين يأتي الأمر من السلطة لمن تصطفيهم من المعاونين والمقربين بمنحهم بعض المزايا العقارية.
ولكن الأمر لم يتوقف عند محمد علي باشا بل استمر التطور بعد ذلك حتي ظهرت الملكية العقارية في الأراضي الزراعية للأفراد فلم يقتصر ظهور الملكية العقارية علي عطايا محمد علي باشا للابعاديات بل توسع سعيد باشا في هذا المضمار, ثم قام الوالي الذي اضطر ـ نتيجة لعجز الميزانية إلي محاولة إغراء كبار المزارعين علي دفع الأموال للخزانة, فأصدر ما عرف بقانون االمقابلةب وحيث يعترف الوالي بحق الملكية العقارية لمن يدفع عدة اضعاف للضريبة مقدما. وأخيرا صدرت مجموعة القوانين المدنية المختلطة في1875, واعترفت لأول مرة بمفهوم الملكية العقارية الحديثة, وبعدها صدر القانون المدني الاهلي1883 معترفا هو الآخر بهذه الملكية الخاصة في الأراضي الزراعية وفي نهاية القرن ومع عجز الخديوي إسماعيل عن تسديد ديونه, وفي ظل الاحتلال البريطاني, اضطر الخديوي توفيق إلي بيع أراضيه الزراعية الدائرة السنية للأفراد, وبذلك توسعت لأول مرة الملكيات الزراعية بين المصريين من الطبقات المتوسطة.


وهكذا نجد أن مفهوم التخصيص يجد جذوره التاريخية في نظام االابعادياتب لمحمد علي وأبنائه. فلاجديد تحت الشمس! ولكن هل يكفي هذا الأساس التاريخي لكي يعتبر التخصيص متوافقا مع النظم الدستورية الحديثة؟


تتوقف الإجابة علي هذا التساؤل حول ما إذا كان نظام التخصيص يتفق أو يتعارض مع مبدأ تحقيق المساواة في الفرص للمواطنين؟ فرغم أنه من المفهوم والمقبول أن تتمتع السلطات الإدارية بسلطة التخصيص أو الامر المباشر في العمليات الصغيرة التي تتطلبها الممارسة اليومية للإدارة فإنه عندما يتعلق الأمر بمساحات شاسعة من الأراضي والتي تؤثر في توزيع الثروات, فإن المسألة تختلف وينطوي التخصيص فيما يظهر ـ علي أن تخصص الدولة من خلال الوزير المسئول قطعة أرض, كثيرا ماتكون شاسعة لأحد المواطنين, بالشروط التي تحددها الوزارة, دون أن تتاح الفرصة لغيره من المواطنين للتمتع بنفس الميزة. وبذلك تملك الجهة الإدارية في هذا الشأن ـ وحدها ـ سلطة تقدير الاعتبارات التي تبرر هذا التمييز دون رقابة من سلطات تشريعية أو قضائية وهكذا فإن االتخصيصا يمثل ـ في الحقيقةـ استمرارا لتقليد قديم حين كان الوالي ولي النعم يمنح العطايا والمزايا لمن يراه من رعاياه المخلصين, وحيث ينطوي الأمر ـ في حقيقته ـ علي إعادة توزيع الثروات بين الافراد. ولا اعتقد أن هذا الأسلوب يتفق مع طبيعة العصر, كما أنه يتناقض مع مفهوم تكافؤ الفرص الذي ينص عليه الدستور, وبالتالي فإنني أشك في مدي دستورية مثل هذه التدابير.


وقد كثر الحديث ـ في الآونة الأخيرة ـ حول ضرورة التفكير في نظام جديد لإدارة ملكية الدولة للأراضي. وحقيقة الأمر أن قواعد القانون الإداري المعروفة والتي سادت في مصر قبل الثورة, كانت واضحة تماما في التمييز بين الدومين العام والدومين الخاص وقد تناولت هذه القضية مرات عديدة علي صفحات هذه الجريدة ويكفي التذكير بأن االدومين العام يعني الموارد المخصصة للمنفعة العامة مثل الطرق والكباري والمطارات وثكنات الجيش, وهكذا وتدار هذه الموارد من جانب الوزارت الفنية المختصة, فالطرق تخضع لوزارة النقل أو المواصلات, والترع والجسور تخضع لوزارة الري, وثكنات الجيش تخضع لوزارة الدفاع, وهكذا أما الدومين الخاص فهو ملكية الدولة الخاصة وبذلك يشمل الأراضي المخصصة للبيع سواء للزراعة أو الإسكان وقد كان هذا الدومين الخاص يدار من جانب إدارة أو مصلحة الأملاك في وزارة المالية باعتبارها المسئولة عن إدارة موارد الدولة المالية الخاصة. وهي تخضع في ذلك لجميع الضمانات والقيود المتعلقة بإدارة الأموال بالميزانية, وذلك تحت رقابة مجلس الشعب وفي إطار محاسبة الجهاز المركزي للمحاسبات لسلامة عملياتها. فلسنا في حاجة إلي إعادة اكتشاف العجلة, ويكفي العودة إلي الأصول والقواعد العامة, وقواعد القانون الإداري المستقرة كفيلة بذلك.


والله أعلم

 

أضف تعليقك