اخبار الشهر العقاري والتوثيق
وليد فهمي يكتب : أول مُنازعة عقارية في العهد النبوي الشريف

2022-04-04 09:15:24

بقلم وليد فهمي | رئيس إتحاد موثقي مصر

أول مُنازعة عقارية في العهد النبوي الشريف

بدأ "علم التوثيق" مع بداية الدعوة الإسلامية، وبزوغ فجر الإسلام، ونزول الوحي في القرن السابع الميلادي. وهذا العلم الإسلامي الشرعي يُعد من أحدث وأهم النظريات في القوانين الوضعية، أخذت بها دول العالم المُتمدن وسمت ذلك بنظريات الإثبات. وفقهاء القانون في أوروبا لم يأخذوا بهذه النظرية إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وأوائل القرن التاسع عشر، حين اشترط القانون الفرنسي أن يكون الدين مكتوباً إذا زاد عن مقدار معين، عكس الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، فقد سبقا فقهاء الغرب بحوالي أربعة عشر قرناً، مُنذ نزول آية المُداينة في أواخر سورة البقرة، تم توالت الحقب في بروز هذا العلم الشرعي – علم التوثيق - ظهوراً وضموراً كثرة وقلة، وضوحاً وغموضاً، إيجازاً وإطناباً.

 

حيث نجد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قد حرص على التوثيق ووثق الكثير من الرسائل والمبايعات وغيرها وحث على ذلك وأمر الصحابة رضوان الله عليهم على توثيق وتسجيل مُعاملتهم وعقودهم وكذلك فعلوا من سار على دربهم ونهج منهجهم القويم من فحول العلماء وكبار الفقهاء حتى شاع وانتشر التوثيق والتسجيل في كل ربوع الدولة الإسلامية وصار علماً قائماً بذاته "علم الشروط " –  طبقاً لعلوم الفقه الإسلامي - له قواعده وشروطه وضوابطه ومنهجاً يضبط أصوله وقواعده الخاصة ممن بذلوا الأوقات والأنفاس حتى تأهلوا وبلغوا فيه المعالي والشرف .

 

فقد خلق الله الإنسان وحبب إليه غريزة المال وحب التملك إلى درجة التقديس، وعليه نشأت بين أفراد المجتمع بل حتى بين الدول خلافات قد تؤدي في أغلب الأحيان إن لم تقل كلها إلى نزاعات كثيرة، فكان لزاماً إيجاد قالب أو وسيلة تفرغ فيها إرادة الأطراف المُتعاملة تكون وسيلة لفض النزاع أو للحيلولة دون قيامه، لهذا كانت الحاجة الى مهنة التوثيق والتسجيل لأنه تسجيل ثابت للحدث ساعة حدوثه بما يحفظ تفصيلات الموضوع ويحميها من عوامل التغيير والزيادة والنقص الذي قد يطرأ عليها لتبدل الأفكار والتوجهات وتأويلات المتأخرين وتحريفاتهم إما قصدا نتيجة الأهواء الشخصية أو بدون قصد نتيجة الجهل والنسيان الذي هو من الطبيعة البشرية ويعتبر مجال التوثيق والتسجيل من المجالات الحيوية التي يجب الاهتمام بها والعمل على تجديدها وتطويرها لدورة المهم بين الإفراد في الحفاظ على ثرواتهم وأموالهم.

 

أول مُنازعة عقارية في العهد النبوي الشريف

في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل في أول مُنازعة عقارية على قطعة أرض في التاريخ الإسلامي، حيث تنازع رجلان (امرئ القيس بن عابس الكندي من كنده   /ابن أسوع من حضرموت) على قطعة أرض فكان الفصل في نزاعهم العقاري أمام رسول الله وكما هو الحال في الفصل في سائر المُنازعات الأخرى بصفته رسول الله (ص) الحاكم والمُشرع والقاضي،{وَمَايَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} ([1])، وفصل بينهم بآية قرآنية زاجراً لأحدهما، حتى اهتدى بها فوقف عن خصومته، وتنازل عن الأرض لخصمه.

نص الحديث الشريف : حدثنا يحيى بن سعيد عن جرير بن حازم قال حدثنا عدي بن عدي قال أخبرني رجاء بن حيوة والعرس ابن عميرة عن أبيه عدي قال :- " خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس رجلاً من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فقضى على الحضرمي بالبينة فلم تكن له بينة فقضى على امرئ القيس باليمين فقال الحضرمي إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبت والله أو ورب الكعبة أرضي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان قال رجاء وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} ([2]) فقال امرؤ القيس ماذا لمن تركها يا رسول الله قال الجنة قال فاشهد أني قد تركتها له كلها" ([3])

وفي تفسير الحديث الشريف :-

 "جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم"، أي: جاء الاثنان يختصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليحكم بينهما فيما وقع بينهما من خلاف على ملكية متنازع عليها بينهما،

"فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي"، أي: استولى عليها وأخذها غصبا، وهي موروثة لي عن أبي،

فقال الكندي: "هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق"، أي: هي في ملكي وأنا الذي أزرعها وأعمل عليها،

 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "ألك بينة؟"، أي: هل لك دليل وإثبات على ملكيتك للأرض مثل الشهود؟

قال الحضرمي: "لا"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلك يمينه"،أي: فلك من الكندي أن يحلف أنها ملكه، وليست ملكك،

 فقال الحضرمي: "يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء"، يشير إلى سهولة الحلف عند الرجل الآخر، وأنه لن يردعه ويمنعه شيء في أن يحلف ليأخذها، حتى ولم تكن ملكه،

فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "ليس لك منه إلا ذلك"، أي: ليس لك عليه من خلاص إلا أن يحلف أنها ملكه وليست ملكك؛ طالما أنه ليس لك بينة تثبت بها حقك،

"فانطلق ليحلف"، أي: فتهيأ الكندي ليحلف على أن الأرض له وليست للحضرمي،

 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أدبر"، أي: لما ولى الكندي ليحلف على مال الحضرمي،

"أما لئن حلف على ماله"، أي: لئن حلف الكندي على مال الحضرمي؛

 "ليأكله ظلما" ويأخذه دون وجه حق وهو يعلم أنه مال أخيه ليس مال نفسه،

 "ليلقين الله وهو عنه معرض"، أي: فسوف يقابل الله بعد موته أو يوم القيامة ويعرض الله تعالى عنه ويسخط عليه،

وفي الحديث النبوي الشريف:

تحذير شديد على حُرمة الملكية العقارية وعدم الاعتداء عليها وترهيب شديد منه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يتجرأ أحد على اغتصاب حقوق الناس، ثم يُقاتل عليها، ثم يطلب الحلف واليمين أنها له، ويستحلها بذلك؛ فإنه بذلك يكون قد أوقع نفسه في الحرام المؤدي إلى الطرد من رحمة الله.

وقال فيها القرطبي ([4]): إن الآية الكريمة ? وَلَا تَشْتَرُوا ? ([5]) نزلت هنا في امرئ القيس بن عابس الكندي وخصمه ابن أسوع عندما اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه، والله أعلم".

وفي هذه الآية والأحاديث قد روى الأئمة عن أم سلمة قالت:

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " ([6]).

 


([1])  الآيتان (3) و (4) من سورة النجم

([2])  الآية رقم 77 من سورة آل عمران : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَ?ئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }صدق الله العظيم

([3])  الراوي : وائل بن حجر | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 139 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]  ، ورواه أحمد (4/ 191)، والبيهقي السنن الكبرى (10/ 254)، والنسائي، سنن النسائي الكبرى (3/ 488)، وهو صحيح.

 

([4])  تفسير القرطبي (10/ 173).

 

([5])  الآية رقم 41 من سورة البقرة : { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }

([6])  الراوي : أم سلمة أم المؤمنين | المحدث: البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 7169 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

أضف تعليقك