الموثقين في عيون الصحافة العربية والدولية
وليد فهمي يكتب : الملكية العقارية والتوثيق في الدولة المصرية القديمة

2022-04-30 01:36:41

بقلم وليد فهمي | رئيس إتحاد موثقي مصر

الملكية العقارية والتوثيق في الدولة المصرية القديمة
 
تطور الملكية العقارية في مصر وصولاً لصورتها الحالية ، يبدأ منذ الدولة المصرية القديمة (مصر الفرعونية) كأول حضارة في العالم عرفت الكتابة ، ونظمت علوم التوثيق والتسجيل (الشهر العقاري)، وصولاً لعهد الفتح الإسلامي ، وتطبيق الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياه واهمها توثيق العقود لحماية الحقوق والأمر الشرعي بالكتابة بالعدل في الآية القرآنية الكريمة رقم 282 من سورة البقرة ، وبالتالي فإن الرجوع للمصادر التاريخية الأولى للتشريع العقاري المصري، لا مفر منه إذا أردنا تحليل حالة الملكية العقارية بمصر تحليلاً كاملاً ،وكيفية تطورها وأسباب تغيرها وارتباطها بتطور الأنظمة والحقب السياسية المختلفة والتشريعية المُتباينة ، قبل البدء في البحث عن حلول تشريعية متكاملة لعلاج أزمة التسجيل العقاري بمصر بعد مرور اكثر من 75 عام على إنشاء مصلحة الشهر العقاري والتوثيق عام 1946 ، والعلاج التشريعي الوحيد والأمثل بتحويلها لهيئة مستقلة بمشروع القانون "هيئة الملكية العقارية والتوثيق" ، ووفقاُ لضوابط الاستحقاق الدستوري بالمادة 199 من الدستور ، واستكمالاً للتاريخ العقاري المصري منذ عهد الدولة المصرية القديمة ، أول دولة في العالم عرفت ونظمت التسجيل العقاري والتوثيق ، ولكن الواقع المؤلم للقطاع العقاري بمصر الآن بعيداً كل البعد عن تاريخ أجدادنا من القدماء المصريين ، وأكثر بعداً عن الواقع العقاري بجميع دول العالم.
 
 
 
 
الدولة المصرية القديمة أول حضارة في العالم عرفت الكتابة والقراءة ونظمت علم التوثيق والتسجيل (الشهر العقاري) ، والتمثال الفرعوني الأشهر على الأطلاق "الكاتب الجالس" والذي أثبت للعالم أجمع أن المصري القديم أول من أمسك بالقلم وكتب في التاريخ خلال عصر مصر الفرعونية ([1])، وقد لا يعلم الكثير منا ان العُملة الورقية المصرية فئة الـ200جنيهاً ([2])، وهي أكبر عملة مصرية حالياً قيمة مالية وحجماً ملموساً، والمطبوع عليها صورة تمثال الكاتب الجالس الفرعوني أو "كاتب القرفصاء" وهو من أشهر الاثار المصرية القديمة ، لهو في الحقيقة صورة الموثق الفرعوني وكان من أعلى المناصب الرسمية وأرفعها شأنا ، خاصة وان من شروط توليه هذا المنصب ان يتحلى بالهمة والمهارة والكفاءات الواجبة.
 
 
 
 
حيث احتلت مهنة الكتبة (الموثقين) مكانة عُظمي في مصر القديمة واعُتبرت درجة هامة في سلم الترقي الوظيفي، والمُطالع للكاتب الفرعوني وهو يجلس في سكينة وقد بسط لفافة بردي بين يديه بينما تمسك يده الأخرى بريشة الكتابة ، وقد التمعت عيناه وشردت قليلا وكأنه في انتظار ما يُملي عليه من تعاقدات او يفكر فيما سيكتب ويوثق ،وفي إطار كافة المهن الفرعونية، ان لكل منصب فرعوني رئيساً له، إلا وظيفة الكاتب المصري القديم (الموثق)، فهو سيد قراراته ومدير شئونه، وهو ما يؤكد على استقلال مهنته وعمله منذ فجر التاريخ في الدولة المصرية القديمة، فقد كان يُلقب بـ "كاهن المعبودة ماعت" ([3]) إلهة الحق والعدل عند الفراعنة ، وكان من أبرز ملامح "ماعت" هي أن تاج رأسها عبارة عن ريشة الكاتب الفرعوني ، والتي هي الآن رمز لمهنة الموثقين بكل دول العالم ، وهو ما كان واضحاً للجميع من أن ريشة تاج "ماعت" آلهة الحق والعدل عن القُدماء المصريين  كانت ريشة تاجها تُزين جانبي طريق الموكب الفرعوني المهيب لنقل مومياوات  أثنين وعشرين ملك وملكة من أجدادنا المصريين القُدماء من المتحف المصري القديم بميدان التحرير ، إلى متحف الحضارة المصري بالجيزة ، خلال الاحتفالية الضخمة في الثاني من أبريل لعام 2021 ،و التي تداولتها وأشادت بها جميع وسائل الاعلام بكل دول العالم  ،وكانت ومازالت محل فخر لكل المصريين ، وكما أبهر اجدادنا قُدماء المصريين العالم قديماً ، أبهرت مصر الحديثة العالم مرة أخرى بهذا الموكب الذهبي المهيب ، حيث تم تصميم حجم كبير من ريشة "ماعت" وبعدد كبير مُصطفة على جانبي طريق الموكب الملكي الذهبي ، للإشارة الى توثيق هذا الحدث التاريخي الفريد
 
 
وهو أيضاً ما يؤكده كافة المخطوطات الفرعونية وقد أجمعت على تفخيم وتمييز منصب الكاتب الفرعوني (الموثق المصري القديم)  ،وكان يسمو ويرقى فوق مستوى أي عمل من الأعمال الرسمية الأخرى، حيث كان مراحل تدريبه ليكون موثقاً ، تبدء منذ ان كان طفلاُ ، بخلاف باقي المهن الفرعونية كافه ،وكان منصب كاتب العدل (الموثق) الفرعوني ، لا يُسند مبدئياً إلا لأحد افراد الاسرة المالكة الفرعونية ، ولم يسمح لغير افراد العائلة المالكة بتولي هذا المنصب إلا في الدولة الفرعونية الحديثة ، وكان الموثقين الفراعنة من كبار موظفي الدولة المصرية القديمة ؛ وكانوا بمثابة عُظماء مثقفيها وحكمائها .
 
ولذا فبفضلهم اطلعنا على كافة النصوص القانونية والتاريخية للحضارة المصرية القديمة، فقد كان الكاتب أحد الحكماء بالمجلس الفرعوني، وإن محبرته ولفائفه من أوراق البردي كانت ادوات مقدسة، تضفي عليه المزيد من الرفعة والتوقير، ويحتل مكانة مرموقة في نطاق المجالس الفرعونية (الخاصة بالموظفين)، وكانت ترقيته ادارياً، تكون سفيراً لمصر بأحد البلاد الأجنبية، أو ليتبوأ أكثر المناصب قدرا ورفعة، كمثل منصب الوزير.
 
 
ولعل أشهر كاتب (موثق) فرعوني هو الكاتب "متري"وهو أشهر تمثال خشبي فرعوني،هذه التحفة الأثرية النادرة عبارة عن تمثال الكاتب المصري القديم لشخص بعيون زرقاء مصنوعة من حجر اللازورد، يعود للمملكة المصرية القديمة أي من حوالي 2600 سنة قبل الميلاد تقريبًا، وهو كاتب ومشرف عام ومراقب من الأسرة الخامسة ، جالساً في الوضع التقليدي للكتبة (الموثقين)، بالساقين متقاطعتين (القرفصاء)، ويفرد لفافة بردي فوق حجره ويمسكها بيده اليسرى، بينما يمسك بقلم في يده اليمنى ،وبدن التمثال مطلي باللون البُني المحروق ولديه شعر طبيعي قصير، وهو يرتدي قلادة ذهبية ثمينة مع عدة صفوف ملونة وبياض العينين مطعم بالكوارتز المُعتم، بينما طعُم إنسان العينين بالبلور الصخري، وكتب اسمه "متري" مع ألقابه ، على القاعدة الخشبية التي يعلوها التمثال، ومن بين الألقاب الكثيرة التي كان يحملها: “"حاكم المقاطعة، وكاهن المعبودة ماعت، والأعظم بين العشرة بمصر العليا، والمُستشار المُقرب " ، ويُشار إلى روعة هذا التمثال الفريد تتمثل في أن بياض العين به احمرارًا ظاهراً في كلتا العينين وكأن الفنان المصري القديم يريد ان يشير الي المتاعب الذي يعانيها "متري" (الموثق الفرعوني) في حياته عامة وفي مهنته الشاقة بسبب كونه كاتباً يسهر الليال الطوال يُمارس مهام عمله في التوثيق والتسجيل.، أول وأقدم مهنة بمنظومة العدالة المصرية.
 
 
فقد نظم القُدماء المصريين توثيق الملكية العقارية وإثباتها وتداولها رسمياً وبعقود كتابية موثقة ،لأول مرة في تاريخ جميع حضارات العالم ، وتوثيقها أمام الكاتب الفرعوني (الموثق المصري القديم)  ،حيث كانت مصر مُقسمة الى مُقاطعات إدارية ولكل مقاطعة حاكم، وعرفت مصر القديمة نظام الملكية العقارية الثنائية من خلال ملكية الأسرة المشتركة، بجانب ملكية الملك الشاملة وملكية الأمراء والكهنة الموهوبة لهم من الملك، وهو ما يُستدل تاريخياً على ذلك من آيات القرآن الكريم في الآيات الكريمة (45 - 56) من سورة يوسف ، وما يُقابلها من آيات التوراة عبر أربعة عشر إصحاحًا من سفر التكوين (37 -50) ، وما نقله الكثير من المؤرخين المسلمين عن "ابن عبد الحكم" وكتاب "فتوح مصر واخبارها" ، وكتاب "الملكية العقارية في مصر" لمؤلفة الدكتور محمد كامل مرسي باشا وزير العدل الأسبق ومؤسس الشهر العقاري المصري عام 1946م ،  من أن قحطاً عظيماً قد حل بالعالم أجمع في عهد احد الفراعنة ، وهو المُلقب بـ "أفوبس" وقد تأثرت مصر بهذا القحط تأثراً بليغاً (سبع سنوات) ، وبعد ان أشتد الجوع على أهل مصر ، فعين فرعون مصر وزيراً له وهو سيدنا "يوسف بن يعقوب" فاشتروا المصريين القدماء الطعام من يوسف بالذهب حتى لم يجدوا ذهباً ، فاشتروا بالفضة حتى لم يجدوا فضة ، فاشتروا بأغنامهم حتى لم يجدوا غنماً ، فلم يزل يبيعهم يوسف الطعام والغلال حتى لم يبق لهم ذهب ولا فضة ولا شاه ولا بقرة في تلك السنين العجاف ، وفي السنة الثالثة ، قالوا له أهل مصر لم يبق لنا شيء إلا أنفسنا وأهلنا وأرضنا ،فكيف تتركنا نهلك  فأشترى يوسف أرضهم كلها للفرعون ملك مصر ، وأعطاهم ما يزرعونه على أن يكون للفرعون الخُمس من محصول ما يزرعون ، وعلى هذا النحو اشترى يوسف أرض مصر كلها لصالح الفرعون ، ولم يبق أحدا على ملكه ، فباع الجميع ما يملكونه من أراضي لشدة وطأه القحط ، وتملك الفرعون جميع أراضي مصر من أقصاها إلى أقصاها ، ولم يستثن من ذلك إلا أراضي الكهنة التي وهبها الملك لهم ، ومنح الملك المصريين القدماء ، بعد ذلك حق الانتفاع من زراعة الأرض ،وظلت له ملكية الرقبة ، على أن يكون للملك خُمس الحصاد مقابل الانتفاع ، ويكون للمصريين الأربعة الأخماس ،
 
وهو ما يؤكد ان المصريين القُدماء قد تملكوا أراضيهم رسمياً ملكية كاملة قبل سنوات القحط، وفق تنظيم قانوني للملكية العقارية، وأضطرهم القحط والجوع إلى بيعها للملك، على أن يحتفظوا بحق الانتفاع بها (أربع أخماس)، قبل أن تنتقل مصر بعدها للتقسيم الثلاثي للملكية العقارية بين الملك والكهنة والمقاتلين المصريين الذين حرروا مصر من الهكسوس بقيادة "أحمس" مؤسس الأسرة الثامنة عشر، وابن الملك "سقنن رع" أحد أبرز ملوك الأسرة السابعة عشر وهو قائد الموكب الفرعوني الذي شهدته مصر خلال الاحتفالية الضخمة في الثاني من أبريل لعام 2021.
 
 
حتى ظهرت مجموعة " بوركوريس" الشهيرة ويُطلق عليها مجموعة العقود (نظام العقود المدونة) خلال الأسرة السادسة والعشرين بعد انتهاء فترة الحروب والغزوات وتوحيد القطرين ، وتقلص ملكية المحاربين واسترداد المصريين القدماء ما كان في حيازتهم من الأرض التي كانوا يحتسبونها  مقابل ما كانوا يؤدونه من الخدمات ، و أباحت مجموعة " بوركوريس" حق التصرف بالبيع من المزارعين المصريين القدماء للأراضي التي يتمتعون بحيازتها ، بعد ان كان سابقاً ليس لهم إلا حق الاستعمال والاستغلال ، وكانوا عليهم سابقاً أن يؤدوا ريع الأرض إلى المنتفعين بها من الكهنة والمحاربين ، ولم يكن لهم حق استخلاف غيرهم على الأرض التي في حيازتهم ، ولا حق توريثها لأبنائهم حيث انحصرت حقوقهم العقارية في الانتفاع بها فقط دون كامل ملكيتها ، ومن خلال مجموعة " بوركوريس" أصبح نقل الملكية لا يتم إلا بمقتضى عقود كتابية موثقة .
 
وفي آخر عهود الأسرات المصرية القديمة (الأسرة 29 ، 30) ظفرت مصر باستقلالها بعد غزو الفرس لها ، فكان ملوك الأسرتين الـ (29 ، 30) من المصريين الوطنيين ، وقد أستهل أول ملوك ذلك العهد الملك "نفريتي" ، وبدأ حُكمه بتأليف لجنة لمُراجعة قوانين مصر وبحث أصول القانون المدني ، التي أقامها " بوركوريس" واستمر بها من بعده من الملوك ، وقد أتم خلفاء "نفريتي" ما بدأه من الأعمال التشريعية العقارية ، وبلغوا بالقانون العقاري المصري آخر مراحل تطوره ، وتم الاعتراف بالملكية الفردية بعيداً عن ملكية الأسرة ، وأصبح حق التصرف في الأرض للفرد لا للأسرة سواء بالبيع أو الهبة أو الإيجار .
 
 
 

([1])  وينقسم التاريخ المصري القديم الي عصرين شاملين: عصر ما قبل التاريخ والعصر التاريخي الثاني.
في عصر ما قبل التاريخ بدأ استقرار المصري الأول في وأدى النيل (حوالي 6000 ق.م) حين عرف الزراعة، واستأنس الحيوان، واستقر في مجتمعات صغيرة متعاونة، فتقدمت حضارته وتكونت في مصر دولتان، الدلتا والصعيد ما لبثا أن اتحدتا سنة 3100 ق.م. تحت سلطة مركزية يرأسها الفرعون وكان ذلك بفضل (مينا) موحد القطرين.
وفي العصر التاريخي الثاني عُرفت الكتابة وتبلورت مظاهر الدين والفن، وينقسم هذا العصر التاريخي الي 30 أسرة ملكية وثلاث دول، نعمت مصر خلالها بحكومة مركزية قوية كما مرت بفترات اضمحلال،
وانتهى تاريخ الفراعنة حين غزا الإسكندر الأكبر مصر وطرد الفرس 332ق.م.
 
([2])   العملة الورقية المصرية فئة الــ200ــ جنيها هي الاكبر حجما، والاعلى قيمة مالية ، والاحدث اصدارا ، بين العملات المصرية كافة .
 
([3])  الإلهة ماعت إلهة الحق والعدلوالنظام في الكون، تمثل بهيئة سيدة تعلو رأسها ريشة النعام رمز العدالة، وكما في الصورة نجدها ممسكة مفتاح الحياة (عنخ) في أحد يديها وتمسك في يدها الأخرى صولجان الحكم. وأحيانا يرمز لإلهة الحق والعدل بالريشة.  وينسب للمعبودة ماعت أيضا التحكم في فصول السنة وحركة النجوم، لهذا سميت مصر قديما (أرض النيل والماعت).
أضف تعليقك